سأحتاج لأن أهدأ قليلا قبل كتابة هذا الموضوع، لا أعرف -مبدئيا- إن كنت سأتمكن من ترتيب أفكاري وأنا في هذه الحال، ولا أعرف ما إذا كان سيتسبب بإغضاب أحد مني أم لا لكنني يجب أن أقوله..
من الذي حدد للشباب معايير النجاح الحالية؟! من الذي اختزل النجاح في المال (كراتب وسكن وسيارة ومحمول ولاب توب ومصيف)؟ والشهرة (كعدد متابعين وستارت اب ومحاضرات وأخبار)؟ والوجاهة (كالقدرة على استخدام المصطلحات واللغة الإنجليزية والعمل في وظيفة مرموقة والصداقة مع شخصيات مشهورة)؟ كيف أصبحت الأولوية للمظاهر بهذا الشكل؟ وكيف تحولت النتائج الثانوية (الإضافية) إلى أهداف أساسية؟! لا يمكنني أن أصف مدى شعوري بالغضب عندما أقرأ عبارة كهذه:
“عمري ٢٠ (أو ٣٠ أو ٤٠) ولم أحقق شيئا في حياتي! أنا فاشل!”
الغضب لا يكون على كاتبها بالقطع وإنما على من تسبب في اقتناعه بأنه فاشل ومن تسبب في أن تكون الأولويات لديه مرتبة ترتيبا خاطئا ومن تسبب في أن تختل بوصلته أو تتعطل تماما.. الغضب من الحال التي أصبحنا فيها بسبب هذا المفهوم..
فمَن من الشباب يرضى براتب مناسب لخبراته القليلة الآن رغم احتياجه للمال؟ ومن من البنات ترضى بزوج لا يتملك شقة؟ ومن يفكر في إمكانياته قبل أن يبادر بشراء محمول غالي الثمن كي لا يكون أقل من أصدقائه بل قد يضطر إلى اقتراض جزء من ثمنه؟ وأصبح من المعتاد أن نرى “رواد أعمال” باحثين عن الشهرة والوجاهة أكثر من من اهتمامهم بما تقدمه مشاريعهم (إن وجدت)، وأن نرى البعض ممن ليست لهم خبرة عملية كافية (أو حتى أكاديمية في بعض الأحيان) يكتبون بجرأة في المجالات العملية أو يتصدون للحديث عنها في المؤتمرات، وأن نرى من يحترفون الكلام بالإنجليزية وبالمصطلحات دون أن يكون لهم عمل حقيقي يؤدونه..
بل وصل الأمر إلى الكذب أثناء السير على طريق الوصول إلى المال والشهرة، الكذب بادعاء امتلاك أشياء غير حقيقية، الكذب بادعاء تحقيق إنجازات غير حقيقية، الكذب بادعاء الحصول على شهادات أو درجات علمية غير حقيقية، ومن لا يكذب فهو غالبا يتجمل ويتحدث عن الحقائق بطريقة لا تظهرها كما هي.. ووصل الأمر إلى التصرف بدون اعتبار الأخلاق بشكل عام أو أخلاقيات المجال بشكل خاص، فلا مشكلة في الاتفاق على موعد وعدم الذهاب إليه أو الاعتذار عنه، ولا مشكلة في إعطاء وعد وعدم الوفاء به، ولا مشكلة في التكاسل عن سداد حق أو دين، ولا مشكلة في التحدث بشكل سيء عن شخص أو عن هيئة، ولا مشكلة في العمل على مشروع فيه أمر محرم.. ما دام الهدف واضحا -وهو النجاح المترجم إلى مال وشهرة- فلا مشكلة في شيء يخالف الدين أو الأخلاق..
المشكلة الحقيقية في هذا هو أن المقتنيات والمظاهر لا سقف لها، فلن يتوقف الجامع لها عن السعي لجمع المزيد منها، ومن بدأ في السير في هذا الطريق فمهما كان محافظا على دينه وأخلاقه في البداية فقد لا يتمكن من الحفاظ عليهما طويلا إذا كان ممن اقتنعوا بأن النجاح يكمن فيها..
ما يربكني أيضا هو أن هناك العديد من الأطراف المسؤولة عن هذه الحال الكارثية: الأهل (بالتربية)، الزملاء، الأصدقاء، الإعلانات، الأفلام والمسلسلات، المؤتمرات، الجهات العاملة في مجال ريادة الأعمال، والتفكير في دور كل منها للعودة بالجيل إلى المسار الذي يؤهل للنجاح الحقيقي أمر يحتاج إلى دراسة ووقت وجهد.. حاليا سأحاول أن أكتب مساهمتي في هذا الأمر، وذلك عن طريق تعريف النجاح..
ما هو النجاح؟
الناجح بالنسبة لي هو
1- من يتعلم في مجال ما (أو أكثر)،
2- ويمارس العمل في ذلك المجال،
3- وأصبح يبذل أقصى جهد يمكنه في العلم وفي العمل،
4- مهما كانت نتائج سعيه..
أي أن الطالب الذي يجتهد في دراسته، ولا يتوقف عند ما يتلقاه في مكان الدراسة، ويطبق ما يدرس عمليا، ويبذل ما يستطيعه من جهد، هو ناجح بغض النظر عن نتيجة كل هذا..
والمبرمج الذي يستمر في التعلم، ويطبق ما يتعمله، ولا يدخر وسعا في عمله، هو ناجح بغض النظر عن نتيجة ذلك..
والأم التي تتعلم كيف تربي أولادها وتتعامل معهم في مراحلهم المختلفة، وتربيهم كما تعلمت، ولا تتكاسل في ذلك، هي أم ناجحة مهما كانت حال أبنائها..
ورائد الأعمال الذي يتعلم كيف ينشئ مشروعه ويديره، ويمارس ذلك، ويستفيد من وقته وجهده بشكل كاف، هو ناجح حتى لو لم ينجح مشروعه..
والعامل الذي يتعلم في معهد مهني أو في ورشة، ويستخدم ما تعلمه في عمله، ويعطي كل الجهد في ذلك، هو ناجح.. وهكذا..
مهما كان سنك، ومهما كان تخصصك ومجال دراستك أو عملك، ما دمت تتعلم وتطبق ولا تتكاسل فأنت ناجح، ناااااااااااجح..
من المبادئ الشهيرة للخبرة والتفوق مبدأ أرساه المؤلف جلادويل في كتاب Outliers ويقضي بأن التدرب في مجال ما لمدة 10,000 ساعة كاف لجعل الشخص ممتازا فيه، صحيح أن هناك انتقادات لهذه النظرية لكن الفكرة واضحة وصحيحة من حيث المبدأ..
لا يقدح فشل مرحلة ما أو مشروع ما في مدى نجاح الشخص، فنجاحه ليس حالة تأتي وتروح مع كل موقف ومع كل تصرف، وإنما هو سمة يكتسبها وتظل معه ما دام يتعلم ويطبق ما تعلمه ويبذل أقصى جهد في عمله، أما ذلك الموقف (المرحلة أو المشروع) فهو الذي يأتي نجاحه وفشله تبعا لمعطيات كثيرة على رأسها توفيق الله ثم أخطاء الشخص نفسه والعوامل الداخلية والعوامل الخارجية..
ماذا عن المال والشهرة والجاه؟!
تماما كما تمزج مادتين كيميائيتين فينتج مركب مختلف الخصائص كنتيجة أساسية، بالإضافة إلى حرارة أو دخان كنتائج ثانوية أو جانبية، يعتبر المال والشهرة والجاه نتائج ثانوية للنجاح، فدوام التعلم ودوام الممارسة وبذل الجهد فيهما ناتجها الأساسي هو النجاح، والنواتج الجانبية التي تظهر نتيجة لتلك المعطيات هي المال والشهرة والجاه..
وليس من الضروري أن يمر كل شخص بالطريق نفسه الذي مر به شخص آخر، ولا أن يحقق النتائج الجانبية نفسها، فهذا يعتمد على عدة عوامل بدوره، إلا أن ناموس الله يحتوي على ذلك، “لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا وتعود بطانا”..
لهذا عندما تسمع من يقول إن المال ليس غاية، لا هو ولا الشهرة ولا الجاه، فقد أصبح واضحا ما يعنيه، إنك تتعلم وتعمل وتجتهد ونجاحك يكمن في رحلتك نفسها، أما المال وبقية الأمور فستأتي وحدها، وكلما خرجت هذه الأعراض من دائرة اهتمامك الأساسية ولم تكن هي الهدف مما تفعله نجحت ونجحت، وجاءت إليك دون حساب منك، وبورك لك فيها..
Last Updated on 14-08-2019