في العصر الثالث لشركتي (إنترنت بلس) كان من أوائل من اخترتهم شخص ممتاز في عمله ومتفانٍ فيه إلى أقصى درجة من الممكن تخيلها، لكن بعد فترة تبيّن أنه حادّ الطباع إلى أقصى درجة من الممكن تخيلها هي الأخرى! وبما أن عملنا يتطلب التعامل والتعاون بين الأقسام المختلفة ظهرت المشاكل، وزادت، إلى أن جلَسْتُ معه، وتحدثت معه عن ذلك العيب، فإذا به يعترف بوجوده لديه ويشرح لي أسبابه ويشكو من عدم قدرته على تغييره رغم المحاولات المتكررة.. فأتاح لي هذا مساعدته ودعمه ليساعد هو نفسه، وجلسنا مرات أخرى، وبدأ العيب بالاختفاء تدريجيا بعد هذا الموقف، وأفاده ذلك على المستوى الشخصي والاجتماعي خارج العمل أيضا، حيث يحكي لي الآن مواقف لا أصدق رد فعله الرائع فيها..
لاحظت من بين أصدقائي من لديه حصيلة علمية وعملية رائعة في مجال ما، ولاحظت من بين المتحدثين الذين حضرت معهم بعض الفعاليات من يمكنه الشرح بطريقة بسيطة تصل إلى الناس بسرعة وهو في الوقت نفسه متمكن من مجاله ويعمل فيه بالفعل، فوضّحت لكل منهما أن لديه ميزة العلم وأن أسلوبه ممتاز في توصيل العلم وأنّ من الأفضل أن يكتب ليستفيد الناس منه على نطاق أوسع من نطاق الفعاليات.. وبالفعل أصبح كل منهما علمًا في مجاله يتابعه الآلاف ويستفيدون منه.. الشي نفسه الذي حدث معي حين أرسل لي عاصم رسالة بعد إحدى الفعاليات يقسم عليّ فيها أن عليّ أن أقدّم المحتوى عن طريق الفيديو لأنه يرى أن طريقتي في توصيل المعلومة جيدة، فاهتممت بنصيحته وبرأيه في وجود نقطة قوة لديّ ينبغي أن أستفيد منها، (صحيح أن عدد متابعي قناة اليوتيوب لا يزال صغيرا لكنّني لا أترك هذا يقلل من عزيمتي)..
إذا كنت تُدْعَى لإصلاح ذات البين بين الأزواج أو بين الأصدقاء فغالبا ما يكون قد مرّ عليك النموذج “المصدوم”، الطرف الذي ينفعل ويشعر بالجرح النفسي الغائر ويُنْكر -بشكل قاطع- الصفة السيئة التي أَلْصَقَها به الطرف الآخر، وبعد العديد من الحكايات والشواهد يتبين أن لديه تلك المشكلة بالفعل وأنه لا يدرك ذلك، وإذا نجحت في إقناعه بوجودها وفي إعداد خطة عمل يمكنه عن طريقها التحسّن فيما يتعلق بالمشكلة فسوف تتحسّن العلاقة وتصبح حياته أفضل، أما إذا لم يتقبلها فسوف تستمر مشاكلهما إلى أن تأتي لحظة تنفجر عندها الغلّاية فلا يمكن إصلاحها.. حدث معي هذا الأمر في سنتي الجامعية الثانية حيث لاحظت تجاهل زملائي لي بشكل متعمّد، وعندما سألت صديقين مقرّبين صارحاني بأنهم يرون في طريقتي في التعامل غرورًا، ويالها من صدمة تؤدي إلى طريقين متضادّين، وعملت على إصلاح نفسي من اليوم التالي، وحتى الآن..
عندما يطلب منّي أحد الزملاء تقييما لأدائه عن الفترة السابقة أَحرصُ على إبلاغه بنقاط قوته بشكل واضح، لا لتقليل الأثر السلبي الناتج عن إبلاغه بنقاط ضعفه وبالمشاكل، وإنما لتشجيعه على معرفة مزاياه في الأساس، وفهم تأثيرها الجيد على أدائه وعلى العمل، فتتحول لديه إلى سمة دائمة ويصبح شخصا أفضل.. من ذلك زميلي الذي كنت دائما أقول له “أكبر مزاياك أنك تعرف كيف تتعامل مع زملائك بشكل ممتاز وتحتوي مشاكلهم” إلى أن أصبح في منصب إداري في الشركة، مسؤولا عن التعامل مع زملائه وتشجيعهم ومتابعة تطور المشاريع معهم، تاركا لي الوقت الذي يمكنني أن أكتب هذه السطور فيه..
“الوعي الذاتي” هو حجر الأساس في نجاح التعامل بين الناس، وحجر الأساس في تحقيق النجاح “طويل الأمد” في الحياة بشكل عام، وحجر الأساس في الشعور بالنجاح الشخصي طوال الوقت، وحجر الأساس في التصالح النفس (الموضوع الذي أتمنى أن نناقشه في مقالة قادمة هو الآخر إن شاء الله).. وهذا الوعي الذاتي يتكوّن نتيجة معرفتك وإدراكك لأمرين: مزاياك وقدراتك ونقاط قوتك، وعيوبك وحدودك ومواطن ضعفك ومخاوفك..
إذا كنتَ مع أحد الأصدقاء في سيارته ثم نزل لبعض شأنه وتركك في السيارة فأتى أمين شرطة يطلب منك تحريك السيارة لأنها تقف في الممنوع فهنا سيتضح وعيك بنفسك.. فإذا كنت ماهرًا بالقيادة فسوف تنتقل إلى مقعد السائق وتتعامل على الفور، أنت تعرف قدراتك.. وإذا كنت تعرف القيادة دون أن تكون ماهرا فيها ودون أن تكون قد قدت مثل هذا النوع من السيارات من قبل فسوف تصبح مترددا، وستتخذ قرارك حسب خطورة الموقف، أنت تعرف قدراتك.. وإذا كنت لا تعرف القيادة فلن تفكر للحظة في قيادة السيارة، أنت تعرف قدراتك، ولن تقول لنفسك “مش يمكن أطلع باعرف!” إلا إذا لم تكن تعرف كيف تعرف قدراتك..
في قرارك المتعلق بقيادة السيارة من عدمه هل تعرف ما هو حافزك للاهتمام بمعرفة قدراتك وإمكانياتك والتصرف على أساسها؟ الحافز هو أنك تعرف النتيجة التي ستحدث إذا تجاهَلْتَ ما تعرفه عن نفسك، إذا كنت قائدا ماهرا وتجاهلت الأمر فسوف تتسبب في أن يقوم الأمين بتغريم صاحبك، وإذا لم تكن قائدا ماهرا وقدت السيارة فسوف تتسبب في أضرار للسيارة وللآخرين ولنفسك.. هنا كان الأمر سهلا لأن النتيجة فورية، لكن في الأمور الحياتية يكون الأمر أصعب، فنادرا ما تكون النتيجة فورية، يمكن أن تكون بعد شهر، ويمكن أن تكون بعد عشرين سنة، مما لا يتيح لك مؤشرا على أهمية الوعي بالنفس في حياتك، لهذا فالحافز الأساسي لك هو سعيك لأن تكون شخصا أفضل على الدوام، سواء كان ذلك على خلفية دينية أو أخلاقية فقط أو إنسانية فقط.. إذا كان هذا موجودا فأنت على الطريق الصحيح..
إذا كنت قد وصلت إلى هذا السطر فأنت في الغالب تعرف الآن بالفعل أهم الطرق التي يتكون لديك عن طريقها وعي ذاتي قوي ودائم: وهو سعيك لتلقّي النصيحة، فالآثار من قبيل “رحم الله امرءًا أهدى إليّ عيوبي” و”الصديق من صَدَقَك لا من صَدَّقَك” تعبر عن أهم مصدر يتيح لك أن ترى نفسك بشكل جيد عن طريق وصف الآخرين لك، أذكر مثلا صينيا معناه أن كُلاًّ منا يولد وهو يحمل حقيبة عيوبه وراء ظهره، لا يمكنه رؤيتها، ويحتاج إلى الآخرين كي يصفوا له عيوبه..
اطلب أنت منهم ذلك، اسألهم مباشرة “ما هي مميزاتي؟ وما هي عيوبي؟” ( لا تبحث عن “أكبر” المميزات أو “أكبر” العيوب فقط) أو اسألهم “ما هو تقييمك لي حسب معرفتك بي؟”.. شرط أن تكون الشجاعة الأدبية والتواضع من سماتك، وإلا فسوف يقيم الخوف والغرور سورًا من الكرامة الزائفة حول نفسك فلا تتمكن من تلقّي ما يقال لك، ولا يُجاوزْ أذنيك، ولن تستفيد منه، بل يمكن أن تقرر عمل مقاطعة مع من تحدّث إليك أو أن تعامله معاملة لا تليق به..
استطراد مهم: ما أنصح به في مسألة تلقّي انطباعات الناس عنك هو ألا تتعامل مع كل الآراء بالأهمية نفسها، كلما كان الشخص قريبا منك وصديقا حقيقيا كان رأيه أهم بالطبع، وكلما كان العكس (وبالذات إذا بدر لك منه ما يدل على عدم صفاء نفسه تجاهك أو تجاه الآخرين) فلا تعتبر رأيه حقيقيا إلا إذا وصلك تأكيد على ما قاله من آخرين ممن تثق في رأيهم وتأمل خيرا من نفوسهم..
الطريقة الثانية أصعب على معظم الناس لكنها -أيضا- أسهل على البعض الآخر ويمكن تعلّمها بالممارسة، وهي مراجعة المواقف ومحاولة استنباط المزايا والعيوب الشخصية وحدود القدرات منها، فعن طريق قضاء وقت كافِ يوميا أو أسبوعيا أو بين الحين والآخر وتذكُّر الأحداث والمواقف يمكن مراجعة التصرفات والمشاعر ووضع كل منها في إطاره المناسب، ويمكن لهذا أن يدخل في إطار “حاسِبوا أنفسكم قبل أن تُحاسَبوا”، مما يُثْري الوعي الذاتي ويجدد محتواه.. أيضا فكّر في كل تصرف وقم بتقييمه على المعايير التي أنت مقتنع بها، واعرف إلى أي درجة أنت متسق مع نفسك في هذا التصرف..
وماذا بعد أن عرفت إمكانياتك ومزاياك وعيوبك؟ هناك طريقان ينبغي أن تسير فيهما:
1- اعمل على زيادة إمكانياتك إذا كان هذا متاحا، وحتى إذا لم يكن متاحا فسوف يكون دور عقلك الباطن الاهتمام بهذا الأمر، فهو يعمل طوال الوقت ودون أن تشعر ليدفعك إلى الطرق التي يمكنك أن تحقق بها ما تبحث عنه، فيكون سببا خفيا في موافقتك على أمور ورفضك لغيرها.. اعمل على تطوير المزايا واستكشاف إمكانيات الاستفادة منها، ثم الاستفادة منها بالفعل.. اعمل على إزالة العيوب وتغيير نقاط الضعف سواء كان ذلك بتطوير الصفات العكسية بنفسك أو الاستعانة بخبير أو التعلم، لا تقف في مكانك وكل من حولك وما حولك في تطوّر مستمر..
2- اقض وقتا أطول مع نفسك لتعرف المشاعر التي صاحبت كل تصرف فعلته وكل موقف مررت به، ثم لتعرف المشاعر الأكثر عمقا والتي نتجت عنها تلك المشاعر، في النهاية ستجد مخاوف ورغبات، كلما فهمتها أكثر واعترفت بوجودها زاد وعيك بنفسك، وأصبحت واضحة بالنسبة لك، فزادت قوتك في الحياة، وزادت ثقتك في كل ما تفعله وفي كل علاقاتك.. هذه المخاوف والرغبات منها ما سترغب في تقويمة، ومنها ما سترغب في تطويره، ومنها ما سترغب في الاستفادة منه.. تناول ذلك بهدوء وبالتدريج، ومع الوقت ستفاجأ بما أنت عليه وبما يمكنك فعله..
Last Updated on 06-02-2021