بعد أن نشرت مقالة “الوعي بالنفس” وفيها قصة زميلي الذي كانت مشكلته العصبية المفرطة التي لا يستطيع التحكم معها بغضبه وكيف تطوّر مع الوقت وتمكّن من السيطرة عليه تواصل معي العديد من الأصدقاء يطلبون تفاصيل أكثر عن هذا الأمر، كيف يمكن للعصبي أن يتحكّم في عصبيته.. فأخبرتهم بأن هذا سيكون أكثر إفادة وإراحة لي إذا نُشر على هيئة بوست..
مفاجأة: عندما تغضب تكون ظالما!
دعنا نتفق على مفاجأة صغيرة غير سارّة في البداية:
عندما تغضب من أحد ولا تتحكم في غضبك فسوف تظلمه.. نعم.. عندما تغضب من أحد وتتعصّب عليه فسوف تظلمه.. حتى لو كان لك حق في الموقف الذي يجمعكما والذي غضبت بسببه..
من الذي يقول دائما:
“مشكلتي لما باتعصب باغلط”
“باقول حاجات واندم عليها”
“لما باهدا بعدها باحس ان الموقف ما كانش مستاهل كل ده”
“لما باتنرفز ما باشوفش قدامي”
هذه المقولات يا صديقي دليل الإدانة على ما تفعله، كل جملة منها تحمل في طياتها معنى ظلمك البيّن لغيرك، ليت الأمر كان قد وقف عند عدم امتثالك لنهي الرسول صلى الله عليه وسلم الثلاثي عن الغضب، أو حتى تجاهل تكريم الله تعالى لصفة كظم الغيظ، لقد تعديت إلى ظلم غيرك، سواء بإهانته بكلام لو سمعتَ أنت أحدا يقوله في وقت عادي لاستهجنته واعتبرته متعديا، أو بفعل مؤذ له بشكل مباشر أو غير مباشر، فأصبحت في مربع لم تكن تتصور أن تكون فيه “الظلم ظلمات يوم القيامة” و”أتدرون من المفلس؟” و”اتق دعوة المظلوم” إلى آخر ما تعرفه عن عاقبة الظلم في الدنيا والآخرة..
مجرّد أن رد فعل الطرف الآخر لم يكن دراميا بشكل كافٍ لا ينفي عنك هذه التهمة الصعبة، أم أنه كان دراميّا بشكل كافٍ إلا أنك لم تنتبه إلى خطورته في فورة غضبك ومرّت الدعوات والحسبنات وربما البكاء عليك دون انتباه؟
إذا لقي منك هذا الكلام أذنا واعية فتعال أشارك معك الطريقة التي أسلكها عندما تحتدم الأمور كي لا أشعر بالغضب وأفقد أعصابي، فبطبيعة الحال مرّت عليّ مواقف كثيرة جدا تدفعني للغضب، مع موظفين وعملاء وشركاء وأقارب وأصدقاء وأناس لا أعرفهم حتى (إلى درجة أنني كنت في اجتماع هام فقام شخص من عمر كبرى بناتي بإهانتي أمام الحضور، مرتين)، ولا يخلو الأمر من أخطاء كبيرة ممن يعملون معي، وطبعا على المستوى الزوجي فالمشاكل هي ملح وفلفل الحياة، ناهيك عن أخطاء الأبناء التي ترفع الضغط إلى مستويات جديدة..
في هذه المواقف المثيرة للغضب كان عقلي يسألني سؤالين واضحين، الأول: “لماذا فعل الشخص الآخر ذلك؟” والثاني: “ما هو هدفك من هذا الموقف؟ ما الذي تحاول أن تحققه؟”
السؤال الأول: لماذا فعل الشخص الآخر ذلك؟
السؤال الأول يذكّرني بأنني أتعامل مع إنسان لا مع جهاز كمبيوتر، فليس من المتوقع إذن أن تعمل برمجته بالشكل الذي يعطيني نتائج متوقعة بنسبة 100%، الإنسان يعني تفكيرا مستقلا ودوافع مستقلة وظروفا مستقلة وإمكانيات مستقلة، الإنسان يعني أن كل حالة يتم التعامل معها في وقتها كحالة مستقلة (قد يتبين بعد ذلك أن هناك نمطا متكررا يحتاج إلى تقويم لكن في الأصل كل حالة تظل حالة مستقلة تحتاج إلى التأمل)، الإنسان يعني ضرورة معرفة سبب تصرفه بالشكل الذي تصرف به الآن.
أحيانا تكون الإجابة على هذا السؤال سهلة لوضوحها، فمثلا أخطأ الموظف لأنه جديد، وتعامل العميل مع موظف شركتي بتكبّر لأننا لم نقدمه بطريقة لائقة، وتصرفت زوجتي بخلاف ما اتفقنا عليه لأنها نسيت أو كرد فعل طبيعي على موقف وُضعت فيه، وورّطني صديقي في أمر ما لأنه تصور أنّ هذا قد يسعدني، وكذب ابني عليّ لأنه خاف من العقاب إذا اعترف بخطئه، وهكذا.. وعندها تزول الدهشة الأولية التي أشعر بها وتذهب الصدمة فتنطفئ شعلة الغضب قبل أن تأخذ مجالها.
وكثيرا ما يحتاج السؤال إلى مجهود أكبر للوصول إلى إجابته، “لماذا فعل ذلك؟”، إذا كنت أعرف تفاصيل عن شخصيته فيمكنني أن أضع نفسي مكانه وأتقمص شخصيته وأعيش ظروفه لأستنتج سبب تصرفه، وإلا فسأسأله السؤال نفسه بهدوء (إذ ليس عندي مبرر حقيقي للغضب بعد) “لماذا فعلت ذلك؟” وأتلقى منه التوضيح المطلوب مفترضا فيه الصدق، وبعد أن يوضّح وجهة نظره يتبين لي إن كان هذا منطقيا وسببا عقليا كافيا أم لا، وأعرف ما إذا كان قصده أن يضايقني أم أنه فعل ما فعله بحسن نية، وفي غالب الأحوال يكون الأمر مبررا، ففي النهاية سمات مثل حب الأذى و”العند” ليست أصيلة لدى الغالبية العظمى من الناس..
السؤال الثاني: ما هو هدفك من هذا الموقف؟ ما الذي تحاول أن تحققه؟
الآن وقد اكتملت الصورة بمعرفة إجابة سؤال “لماذا فعل ذلك؟” أعود لأفكر في إجابة السؤال الثاني لنفسي “ما هو هدفك من هذا الموقف؟ ما الذي تحاول أن تحققه؟”، وفورا تُحشَد الطاقات كلها نحو السياق الصحيح، الانتباه للهدف مما كنت أفعله قبل حدوث ما يسبب غضبي، أو من كيفية الاستفادة من الموقف نفسه، فأتذكر في لحظة واحدة هدفي وما أحاول تحقيقه.. فهدفي من علاقتي بالموظف الجديد -مثلا- ومن الموقف أن يصبح أكثر فائدة للشركة ولنفسه وأن يحب الشركة وأن يتعلم من أخطائه، وفي حالة بالعميل الذي أغضبنا فيما يتعلق بالموقف المذكور أن يعرف أن هذه شركة محترمة تحافظ على سمعتها وتهتم بموظفيها وعملائها وأن أحافظ عليه إن أمكن، وفي حالة زوجتي أن تتجنب مضايقتي وأن تستمر علاقتنا جيدة، وفي حالة صديقي أن يعرف حدود التعامل وأن تستمر علاقتنا أيضا، وفي حالة ابني أن يعرف أن الكذب خطيئة كبيرة لا تقارَن بخطئه الأصلي فيتوقف عنه، وألا يشعر أنني أكرهه، وهكذا..
ذلك السؤال السريع يمنحني البوصلة التي تساعدني في أن أعرف ما ينبغي أن أفعله أو أقوله بعد الذي حدث لأحقق ما أسعى إليه، ليستمر تدفق الطاقة في الاتجاه المُنتج، فأجد إجابة واضحة لما ينبغي أن أفعله، وأتمكن من تحديد ردّ الفعل الذي يجب أن أُظهره للطرف الآخر لأستفيد مما حدث..
لهذا تجدني في موقف ما أُظهر مشاعر الغضب “المقصودة” و”المحسوبة” بشكل لا يؤذي الشخص ولا يتجاوز مقدار خطئه ولا يسبب فشل ما أسعى إليه بل يفتح له المجال لفهم الخطأ الذي حدث، وفي موقف آخر أُظهر التعجب وأستفسر منه عما يقصده لأتأكد مما يقصده وما يعنيه من قوله أو فعله وكيف حدث ما حدث، وقد أتجاهل ما حدث وأسعى لطمأنته وتوضيح أمر له يكون قد فهمه بشكل خاطئ مما أدى إلى ما بدر منه (ولاحقا أصارحه بأن ما فعله كان خطأ وأنه ضايقني)، وربما أقرر أن الانسحاب من التواجد في المكان أو بالتوقف عن الكلام هو رد الفعل المناسب (مع ملاحظة أنه يجب أن يكون عن تفكير كما وضّحت لا رد فعل عفوي)، وقد أتخذ قرارا عقابيا تجاهه دون أن أضطر إلى إظهار مشاعر عدائية أو التجاوز (في الواقع من الأخطاء الكبيرة اتخاذ قرار عقاب في وقت الغضب الحقيقي)، وهكذا..
مع أنني أسهبت في الكلام وفي الشرح إلا أن السؤالين في الواقع لا يأخذان وقتا طويلا في الاستيعاب والإجابة، ربما خمس ثوان في البداية ثم يصبحان رد فعل طبيعيا لا يستغرق وقتا بعد فترة، هناك طرق “اصطناعية” شهيرة للتغلب على الغضب تعتمد على رد الفعل السلبي الذي يجعل الوقت يمر مثل العد من 1 إلى 10 قبل التفوه بشيء أو عمل شيء، أما هذه الطريقة فتستغرق أقل من ذلك وتجعل الوقت يمر في إيجابية كاملة وبتفكير واضح من أجل الوصول إلى قرار أكثر ميلا للصواب..
التنفيس الفوري: هل يمكنك تحمل نتائجه؟!
دائما أقول لمن يبادرون باستخدام العنف (لفظا أو فعلا) أو الانسحاب للتنفيس عن الغضب تجاه أولادهم أو أزواجهم أو موظفيهم أو الناس عموما إنهم بهذا “يريحون” أنفسهم بتصرفهم دون “تفكير” وذلك على حساب مصلحة الطرف الآخر، فبدلا من تعزيز ثقة الآخر بنفسه عن طريق الاستفسار منه عما حدث تفصيليا ولماذا حدث وما وجهة نظره يقومون بتدميرها بالتعامل برد الفعل العشوائي، وبدلا من الحرص على عدم الوقوع في خطيئة “الظلم” للغير يبادرون بأن يشفوا غليلهم وكأنهم سيستفيدون شيئا من هذا.. وبدلا من أن يعملوا على اكتساب احترامهم يكتسبون العكس (للأسف) مع الخوف المستمر.. وبدلا من أن يعرفوا الخطأ الذي ارتكبوه فيستفيدوا من ذلك فإنهم يشعرون بالظلم لعدم إدراكهم بتفاصيل وفداحة ما فعلوه بطريقة واضحة وهادئة..
بتعبير آخر وكمثال: إذا ارتكب ابنك خطأ ما فهناك احتمال لأن يكون هذا عن طريق الخطأ والسهو واحتمال لأن يكون عن طريق التعمد، إذا كان عن طريق الخطأ والسهو فتصرفك العشوائي سيجعله يشعر بالقهر والظلم كونك لم تسأله أو تسمعه، ويكرهك ولا يحترمك كونك لم تتعامل معه بطريقة فيها احترام له، وسيجعله ذلك عديم الشخصية (أو مهزوز الشخصية على الأقل) إذ لم تتعامل معه كشخص ناضج له شخصية وعقل وتفكير، وإذا كان متعمدا فهذا لا يبرر التنفيس عن الغضب دون فائدة، فهناك فرق بين التنفيس عن الغضب وبين التربية، يمكنك أن تقرر عقابه بالفعل لكن بعد أن تتعلم كيف تتحكم في غضبك فلا يكون هو محرك تصرفك.. دائما أقول لمن يسلك الطريق الأسهل غير البنّاء للتنفيس عن مشاعر الغضب دون تفكير:
“إنتي بتربيه واللا بتنتقمي لنفسك عشان نرفزك؟”
“إنت بتفهّمها الصح والغلط واللا بتشفي غليك وخلاص عشان ضايقتك؟”
“”إنت عايزهم يحترموك ويسمعوا الكلام واللا تخوّفهم بزعيقك عشان ما عندكش وقت يقوموا يكرهوك؟”..
كرامتك في استخدامك لعقلك!
ليس في أي شيء قلته دعوة للتهاون في الحقوق، بالعكس تماما: حقك في حفظ كرامتك هو في تحقيقك للهدف الذي تسعى إليه، ثم في توضيح الخطأ الذي حدث وكيف أنه ضايقك، وليس في الانتقام الفوري الذي ينتج عنه إهدار كرامتك الحقيقي عندما تنتبه إلى أنك أخطأت وتجاوزت في رد فعلك العصبيّ فتفكر كيف يمكنك أن تصلح الأمر، وغالبا لا يمكنك، فتكون حقا قد أهدرت كرامتك لدى الطرف الآخر..
الاجتماع الذي ذكرته كان مع عميل ومع شركة ستتعاون معنا لصالح العميل، وكان هذا الشاب ضمن وفد تلك الشركة.. عندما أصدر أول إهانة ركزت على أن هدف هذا الاجتماع أن يسير العمل مع العميل بشكل جيد وأن نحصل على تعاون تلك الشركة وألا تهتز صورتي كخبير له احترام ما، فابتسمت وقلت له: بعيدا عن أن ما قلته يعدّ إهانة فما أريد أن أقوله هو كذا كذا، فلم يعلّق بشيء.. في المرة الثانية ابتسمت مرة أخرى وقلت له: مع أن هذه ثاني مرة تهينني فيها إلا أن إجابة ما تناقشه الآن هو كذا كذا، فاعترض وقال إنه لم يقصد فرددت عليه بالابتسامة نفسها: أهنتني مرتين مرة عندما قلت كذا ومرة عندما قلت كذا.. فاعتذر أمام الحضور.. وبعد الاجتماع أتى إليّ وصافحني خجلًا وأكّد لي أنه لم يقصد الإهانة، وأصبح من الأصدقاء، ثم وضعني الله في عونه في وقت تسبب فيه لشركته في مشكلة فأرشدته بما أستطيع..
حاولت قدر الإمكان أن أنقل الصورة العملية في هذا الموضوع، وأدعو الله أن ينفع به وأن يكون سببا في أن تتحسّن حياة البعض، ويسعدني أن أجيب على تعليقك إذا كان لديك أي استفسار..
Last Updated on 13-02-2020