أعتقد أن توافر الأرقام الحقيقية عن الوباء في مصر كان سيمثل الفرق بين اهتمام الناس جميعا بتعليمات الحماية بشكل كامل في فترة الوباء الحالية وبين عدم اهتمامهم، لأن متابعة تطور الأرقام الحقيقية الموثوق منها من شأنه أن يجعلهم مسؤولين وقادرين على تشجيع بعضهم البعض عندما تبدأ الأرقام في النزول أو الضغط المجتمعي (الفردي والجماعي) عندما تزيد.
عندما كنت ألتقي بمصري عائد من أمريكا أو السعودية (قبل الحظر مباشرة) كنت ألمس الاهتمام الحقيقي بالتعليمات، وعندما أسأله يتحدث بالأرقام مباشرة كدليل على خطورة الموقف، وأجده مقتنعا بمسؤوليته الشخصية عن تقليل الأرقام وعدم التسبب في العدوى لأحد حتى لو لم يكن هو مصابا في ذلك الوقت.
لكن الأرقام غير متوفرة لأسباب متعددة، منها أن بعض الحكومات لا تريد إعطاء صورة تضرها بعلاقاتها الاقتصادية واللوجستية مع بقية الدول مستقبلا (نذكر عندما قررت بعض الدول بشكل فردي منع الرحلات القادمة من دول معينة، وينسحب هذا مع الوقت على الشحن وغيره)، كما أنها لا تريد التسبب في الذعر للمواطنين (حاولت وزيرة الصحة البريطانية إخفاء الأرقام إلا أن النتيجة كانت عكسية فاعتذرت في اليوم التالي)، وكذلك لا تريد إشعال الغضب بينهم عندما يتضح أن المنظومة الصحية غير مناسبة أو كافية وأن الاختبارات اللازمة غير كافية (كما حدث في العديد من الدول).
إلا أن هناك سببا أهم لعدم توافر هذه الأرقام، وهي أن بعض الحكومات لا تعرفها أصلا، عندما يزور بعضنا أطباء الباطنة في المناطق المختلفة وفي المحافظات المختلفة يدرك بوضوح أن حجم التأثر بالوباء أكبر بكثير من السبعة أضعاف التي تحدث عنها وزير التعليم العالي، وسبب عدم توافر الأرقام هو عدم وجود نظام صحي مركزي، كل طبيب يعمل في عيادة منعزلة، كل مستوصف يعمل في مبنى منعزل، كل مستشفى تعمل بنظام منعزل، لا توجد شبكة صحية موحدة يمكن من خلالها تسجيل الحالات المرضية وحالات الاشتباه وحالات الوفاة، وهذا أمر مستغرب جدا في القرن الحادي والعشرين.
صحيح أن هناك محاولات سابقة، وصحيح أن هناك مشاريع ناشئة تحاول تغطية هذه الفجوة، لكن بدون “تخطيط” ممتاز وواع على الأصعدة الطبية والمالية والتقنية والسياسية، وبدون “توعية” ممتازة (جدا) لكافة شركاء المجال من وزير إلى موظفين إلى أطباء إلى مساعدي أطباء إلى مواطنين، وبدون “إدارة” ممتازة وقوية، وبدون “نظام” عمل ممتاز و”نظام” تقني ممتاز وقابل للتوسع والتطوير ومتحرر من القيود، وبدون “حوافز” و”عقوبات”.
بدون كل هذا لن يكون هناك نظام صحي مركزي من شأنه أن يسهم في رفع الوعي الشعبي ومن ثم السلوك الصحي المطلوب، ومن شأنه أن يوفر التقارير الفورية لانتشار الوباء والشفاء والوفيات والتقارير التفصيلية للمناطق والأعمار وارتباط المرض بالعوامل المختلفة الخ.
إذا لم يكن الآن، فمتى؟