الحوكمة حماية للشركة والشراكة

من أكثر الكلمات التي تُستخدم في عالم الشركات دون أن تُفهم بعمق: “الحوكمة“، البعض يظنها كلمة بيروقراطية، أو إجراء تنظيمي ممل، أو مجرد لائحة تُعلق على الحائط. لكنها في الواقع، واحدة من أهم أدوات حماية الشركة من الداخل، خاصة حين تكون العلاقة بين الشركاء معقدة أو حساسة.

الحوكمة تعني ببساطة: إنشاء نظام واضح (وتفعيله ومتابعته وتطويره) يضبط العلاقة بين ملاك الشركة وبين كل الأطراف ذات المصلحة التي يؤثر عليها وجود الشركة ونشاطها، ويحدد من يملك القرار، ومن يحق له الاعتراض، وما هي الآلية التي تُتخذ بها القرارات، وكيف تتم المتابعة والمحاسبة.

هي ليست ورقة تُكتب، بل أسلوب تفكير وطريقة إدارة للأمور. وهي في الشركات الناشئة والشراكات الصغيرة ليست بأقل أهمية منها في الشركات الكبرى.

لماذا نحتاج إلى الحوكمة بين الشركاء؟

لاحظت أن أغلب المشاكل التي تنفجر داخل الشركات سببها عدم الاتفاق وغياب الوضوح في الأسئلة التالية:

  • من يقرر ماذا؟
  • من يُحاسب من؟
  • من يُمثل الشركة؟
  • من يوقع العقود؟
  • من يتابع الأداء؟
  • ما هي حدود الصلاحية لكل شريك؟

في غياب هذه الإجابات، تبدأ المشاكل من تفاصيل صغيرة ثم تكبر، وتتحول النية الطيبة إلى توتر وسوء ظن.

كثيرا ما أجلس للفصل في خلافات الشركاء، ودائما ما تكون المشاكل قد نشأت لأن أحد الشركاء كان يرى أن له الحق في اتخاذ القرارات لأنه المؤسس وصاحب الفكرة، أو لأن أحد الشركاء رفض أن يكون موظفا في الشركة تحت شريكه المدير، أو لأن أحد الشركاء لم يكن على المستوى المطلوب للقيام بواجبه التنفيذي. كل طرف كان لديه مبرراته، ولم يكن هناك اتفاق مسبق، فكان لا بد أن يحدث الخلاف لنضع نظاما للشركة.

حوكمة الشراكة

بشكل عملي، تحتاج كل شركة إلى وثيقة داخلية (أو بنود ضمن اتفاق الشراكة) توضح التالي:

  1. تكوين مجلس الإدارة وآلياته.
  2. آلية اتخاذ القرار:
    • ما هي القرارات التي تحتاج تصويتًا؟
    • ما النسبة المطلوبة لاعتماد القرار؟
    • هل هناك قرارات لا تُتخذ إلا بإجماع؟
  3. الصلاحيات:
    • من يوقع العقود؟
    • من يتحدث باسم الشركة؟
    • ما الحد الأعلى للصرف دون الرجوع؟
    • هل يجوز لأي شريك تعيين موظف أو إنهاء خدمته؟
  4. المتابعة والمحاسبة:
    • من يراجع الأداء؟
    • هل هناك تقارير شهرية أو ربع سنوية؟
    • ما هي معايير تقييم الشركاء أو الإدارة؟
  5. التعامل مع التعثر أو الخلاف:
    • ماذا يحدث إذا رفض أحد الشركاء قرارًا جماعيًا؟
    • ما الإجراء في حال الإخلال بالاتفاق؟
    • كيف يتم التخارج أو إدخال شريك جديد؟
    • من الذي يجب الرجوع إليه للفصل بين الشركاء في حالة حدوث نزاع؟

بين الشريك والشركة

في كثير من الحالات، ينسى الشريك أن الشركة كيان منفصل عنه، له ذمة مالية، وله كيان قانوني مستقل. فتجد أحدهم يستخدم أموال الشركة كما يشاء، أو يوقع العقود باسمها دون تفويض، أو يعتبر الموظفين تابعين له شخصيًا. الحوكمة تضع حدًا لهذا الخلط، وتُرسخ أن الشركة ليست شخصًا، بل كيانًا تحكمه اللوائح والأنظمة.

رأيت حالة شريك وقّع عقد تمويل كبير بالدين واستخدمه لمصلحة شخصية (لحل أزمة أحد أقاربه قبل أن يسجن)، ولم يتمكن من سداد القرض، مما اضطر الشركاء إلى التنازل عن أرباحهم لمدة سنتين لسداد القرض المسجل على الشركة!

لو كانت هناك حوكمة، لكانت الصلاحيات واضحة، والتوقيع دون تفويض يُعد مخالفة.

الحوكمة لا تعني التعقيد، بل التنظيم

بعض الشركاء يخشون أن الحوكمة تُعطل العمل، أو تُعيق القرارات. بالعكس، هي تُسرعها، لأنها توضح الطريق من البداية. كل واحد يعرف دوره، ومتى يتدخل، ومتى يتراجع، هي مثل إشارات المرور: وجودها لا يُبطئ السير، بل يمنع التصادم.

متى نبدأ الحوكمة؟
من أول يوم. لا تنتظر أن تتوسع الشركة، أو تكبر الخلافات. كلما بدأت مبكرًا، كانت كلفتها أقل، ونتائجها أفضل.

ما الشكل الأمثل لوثيقة الحوكمة؟

ليس بالضرورة أن تكون معقدة. يمكن أن تبدأ من صفحة واحدة، تتوسع لاحقًا. أهم شيء:

  • تحديد المسؤوليات.
  • تحديد تكوين مجلس الإدارة.
  • تحديد صلاحيات مجلس الإدارة.
  • توثيق صلاحيات الشركاء.
  • وضع آلية اتخاذ القرار.
  • ربط الأداء بالمتابعة.
  • وضع خطة للتعامل مع الأزمات.

لاحقا سنتحدث إن شاء الله عن وثائق الحوكمة المختلفة التي تبدأ من لائحة الحوكمة وتنتهي بتوثيق العمليات والأنشطة العادية في الشركة مرورا بالسياسات ووثائق إدارة المخاطر ومصفوفات التفويض.

الشفافية والحوكمة

من أهم فوائد الحوكمة أنها تفرض الشفافية. كل شريك يعرف أين تُصرف الأموال، وما هي نتائج العمل، ومتى يتم التوزيع، ومن يقرر، هذا يمنع الشك، ويعزز الثقة، ويقلل التدخلات العشوائية.

الختام

الحوكمة ليست رفاهية. هي ضرورة لكل شركة، مهما كان حجمها. هي ضمان لاستمرار العلاقة بين الشركاء، ولعدم ضياع الحقوق، ولمتابعة الأداء بعدل، والحوكمة لا تُقلل من قيمة الثقة، بل تثبّتها، وهي التي تضمن ألا تتحول الخلافات الطبيعية إلى قنابل موقوتة.

ابدأ من اليوم. ضع نظامًا واضحًا. وثّق اتفاقك. راجع الأداء. واحرص على أن تكون الشركة أكبر من الأشخاص، فالحوكمة الجيدة ليست فقط علامة على الاحتراف، بل على احترام الجميع للشركة، ولمستقبلها.

نقدم في "خضر وبزنس" استشارات في:

د. محمد حسام خضر خبير الإدارة والاستثمار ومؤلف كتاب "رائد الأعمال Inside Out"، أسس العديد من الشركات في مجالات مختلفة منذ 1997، وأسهم في إنشاء الكثير منها وتمويلها وبيعها، ويقدم الاستشارات للشركات التقليدية والريادية منذ 2018.

احجز جلستك معنا عن طريق واتس اب أو الإيميل من هنا: اتصل بنا.

FacebookTwitterLinkedInYouTubeWhatsApp