هل تعرف معنى أن تفتح قريش عينيها كل صباح على بيت خلي من سكانه لأنهم سافروا إلى المدينة سرًّا في الليلة الماضية مهاجرين إليها؟!
لنأخذ خطوة إلى الوراء: رغم كل شيء، كان المسلمون والمشركون أقارب وأنسباء، أب مشرك وابنه مسلم والعكس، وزوج مسلم وزوجته مشركة والعكس، وعم مسلم وابن أخ مشرك والعكس، وهكذا، كلهم من قبائل محددة ومن عائلات محدودة..
فالآن.. بعد أن كان المشركون ناقمين على رسول الله صلى الله عليه وسلم لتفريقه بينهم روحيا ومعنويا بالدين الجديد، زادت نقمتهم عليه لأنه تسبب في التفريق بينهم جسديا ومكانيا بالهجرة.. فكان هذا سببا أول لتهديد حياته..
المفاجأة: كان قد أمر أصحابه بالهجرة إلى المدينة لكنه لم يؤذن له بعد!
نعم، تمكن أصحابه من النجاة إلى حياة جديدة لكنه ينتظر أمر الله في نفسه..
مستمرا في أداء الدعوة والعمل بما أمره الله به..
السخط يزيد عليه من قبل المشركين، وعمه الذي كان سيدا من سادات قومه وكان حاميا له مات منذ ثلاث سنوات، وزوجته التي كانت عزيزة في قومها والتي ساندته بمالها وبجاهها ماتت في ذلك الوقت أيضا، فقلّت حمايته.. وشيئا فشيئا لم يعد في مكة إلا هو وعلي وأبو بكر (من المتوقع أن يهاجر علي معه، وكان أبو بكر قد استأذنه في الهجرة فأشار إليه بالانتظار)، بالإضافة إلى “المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا”.. فصارت عزلته وقلة من تبقى حوله سببا ثانيا لتهديد حياته..
مع تصاعد الأحداث نبّه المشركون بعضهم البعض إلى المصيبة الحقيقية وراء هجرة المسلمين: سيلحقهم النبي (صلى الله عليه وسلم) قريبا ثم يعودون جميعا بعد أن تقوى شوكتهم وتكبر تحالفاتهم ويحاربوننا! أرعبتهم هذه الحقيقة المنطقية، فظهر بذلك السبب الثالث لتهديد حياته..
كل هذا وهو ملتزم بأمر الله..
ببقائه وحده..
مستسلم لعدم ورود إذن له بالهجرة إلى أصحابه..
إلى حيث مسلمي المدينة الذين عاهدوه منذ عدة أشهر على السمع والطاعة وعلى نصرته أمام أي عدو..
إلى حياة فيها أمن أكبر..
ودعوة إلى الله أكبر..
وقوة للدين..
دون أن يتردد أو يعترض على أمر الله..
في وقت عصيب، النفوس فيه متحفزة، والوجوه لا تبشر بالخير..
حتى وصلت الأمور إلى ذروتها، فاجتمع سادات قريش، وتوصلوا إلى القرار الذي لا بد منه..
قتله..
وهنا لا يمكن لإمكانياته ولا لإمكانيات أبي بكر وعلي حمايته، ولا يمكن لأي شيء في حوزته الدفاع عنه أو تغيير النتيجة..
فما الذي حدث؟
أخبره جبريل بخطة المشركين تفصيليا..
جاءه الإذن بالهجرة..
أعمى الله أعين الشباب الذي يقفون ببابه ليقتلوه فمر بينهم وهم لا يرونه..
أوصله إلى الغار الذي يمكنه أن يختبئ فيه..
أعمى أعين المشركين الذي تبعوه إلى الغار وكان من الممكن أن يروه إذا نظروا إلى تحت أقدامهم..
عطّل حصان سراقة بن مالك -الذي تبعه بمهارته في تقفي الأثر- عدة مرات ولم يمكّنه من الوصول إليه..
أسعده بمئات المسلمين الذين استقبلوه فرحين يحاول كل منهم أن يستضيفه عنده..
عندما تستسلم لأمر الله دون ذرة شك أو اعتراض أو ضيق..
مع استمرارك في الأخذ بالأسباب التي خلقها الله وهيأها لك..
سيمدك بقدرته..
ويدبر لك أمرك..
يقول الشعراوي:
إن لله يد أسباب ويد قدرة..
فإذا أخذت بيد الأسباب ولم توفق..
مد إليك يد القدرة..
الهجرة بالنسبة لي هي جملتان قالهما المختار صلى الله عليه وسلم لأبي بكر الصديق، الأولى عندما أراد الصديق أن يهاجر، والثانية في الغار:
الاستسلام في “على رسلك، فإني أرجو أن يؤذن لي”
اليقين وقدرة الله في “ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟”