عندما كنت في الثانوية العامة (منذ 28 سنة) توترت إلى درجة الصدمة عندما مر نصف العام دون أن أكون قد فتحت أيا من كتب المدرسة وأخبرني زملائي أنه من المستحيل أن أتمكن من تحصيل المواد بشكل مناسب خلال الشهرين المتبقيين، توترت إلى درجة الصدمة والشلل الفكري.. لأسبوع أو اثنين..
عندها حدث أمران: الأول أنني عندما أخبرت أحد المدرسين بما أنا فيه طمأنني وأخبرني بأنه لا زال هناك وقت للمذاكرة، فساهم ذلك في تخفيف الارتباك الذي كنت فيه، لكنه لم يدفعني لاتخاذ خطوات عملية..
والثاني عندما اخترت من مكتبة أبي العامرة كتابا صغيرا لا يكاد يهتم به من يراه، وعكفت على قراءته ومذاكرته ثلاثة أيام نهضت بعدها مما كنت فيه، وبدأت بأن فصلت صفحات الكتب المدرسية الملتصقة بمسطرة، ثم سألت أحد أصدقاء الأسرة عن أفضل جدول للمذاكرة، وتحولت أيامي إلى مذاكرة طوال الوقت..
النتيجة؟ بفضل الله حققت نتيجة ممتازة في الثانوية العامة آنذاك، وكان الاختيار وقتها بين الطب وبين الهندسة فانتصرت الأخيرة بدفع من والدي..
الأمران اللذان ذكرتهما يعتبران من قبيل “التنمية البشرية” 🤮 نعم، “التنمية البشرية” ذلك التعبير المستهجن.. فالأمر االأول لم يكن أكثر من جملة “يمكنك عمل ذلك” التي أهّلتني لتقبل الخطوة التالية عندما تأتي، والثاني كان كتاب “دع القلق وابدأ الحياة” الذي يعد من أروع بدايات التنمية البشرية في العالم وأول كتاب في مجال التغلب على القلق من وجهة نظر تطوير الذات دون الحاجة لتدخل خارجي، لا يردد شعارات فارغة من المحتوى، ولا يبشّر بمكتسبات وإنجازات يمكن تحقيقها دون معرفة تفاصيل الطريق، بل يرتب الخطوات العملية اللازمة لتغيير طريقة التفكير وطريقة رؤية الأمور وحتى التصرف مع الأشياء والأشخاص.. ودائما ما كنت أعجب لتدبير الله في أن يرسل إلي شعارا يحمّسني ويُتبع ذلك بخارطة طريق توضح لي كيف يمكنني “عمل ذلك”..
تعود هذه القصة إلى ذاكرتي بقوة كلما رأيت تعليقا يهين محتوى جيدا بدعوى أنه “تنمية بشرية”، وكلما شاهدت ضجة سلبية تثار حول ورشة عمل في هذا المجال، أعرف جيدا أن هناك مدّعين يستغلون أحلام الناس ويأكلون بمتاعبهم ما يشتهون، إلا أن تعميم الحكم على كل محتوى قد يُحدث فرقا وتطورا عند الناس بتهمة “تنمية بشرية” أمر لا يصح هو الآخر، وأُجزم أن هناك الكثيرين ممن لديهم محتوى هادف يخشون نشره علنا خوفا من تلك التهمة! في حين ينتشر المحتوى المسفّ والهزلي بشكل كبير دون أي درجة من درجات التوازن..
التنمية البشرية التي أقتنع بأهميتها وأقّدرها هي تلك التي:
1- لا تعد بأكثر مما تقدم، فالمحتوى والفعاليات التي تتحدث عن تغيير الحياة أو اكتساب الثراء أو الصحة النفسية في يومين أو في عدة ساعات غالبا ما تكون مما يساهم في إلصاق السمات السيئة بالتنمية البشرية الحقيقية، أما ما يتم وصفه والإعلان عنه وتقديمه بشكل موضوعي وفي حجمه الطبيعي فهو ما يُتوقع منه أن يكون مفيدا ومغيّرا بالفعل..
2- لا تبن المحتوى على مجرد تعبيرات ومصطلحات فخمة لمجرد أنها تلهب مشاعر الناس وتجعلهم يصدقون أن بإمكانهم تحريك الجبال، صحيح أن هذا له تأثير لكنه لحظيّ جدا ويتبخر مع أول احتكاك مع الواقع (reality check)..
3- تقدم خطة واضحة للعمل في كل مفهوم ومبدأ، لتحقيق كذا يجب أن تسير في طريق بعينه، للوصول إلى كذا يمكنك اتباع الخطوات التالية، تماما كبقية العلوم الاجتماعية كالإدارة والتسويق وريادة الأعمال..
4- تكون مبنية على ما يناسب بيئة وطبيعة وخبرات وتجارب الجمهور، لا مستوردة من الخارج كما هي بشكل لا يتيح لها تطبيقا مناسبا لديهم، طبعا إذا كانت مستوردة ومناسبة فهذا جيد..
الحكم على أشخاص يسيئون استخدام أمر ما لا يعني أن هذا الأمر سيئ..