في الشركة التي بدأت العمل بها سنة 1998 كان معنا مسؤول مبيعات لديه علاقات ممتازة مع العديد من كبريات الشركات التي نبيع لها، وكان ماهرا للغاية، يعرف كيف يتسلل إلى قلب مدير المشتريات في أي شركة ويجعله يتعامل معنا، وكيف يقنعه بالشراء منا لا من مورّد آخر، وكيف يطلب الآن لاحتياج مستقبلي، لدرجة أن صاحب الشركة كان إذا احتاج إلى زيادة المبيعات في شهر ما طلب منه التصرف فيتصل في يوم واحد بعميلين أو ثلاثة ويحصل على طلبات إضافية منهم توفر الدخل المطلوب.
لهذا كان المقابل المادي الشهري له متميزا ما شاء الله لا قوة إلا بالله، فكان يستخدمه في شراء العقارات للاستثمار، مما وفر له استقرارا ماليا ممتازا.
بصفتي رياديا متحمسا سألته عدة مرات: لماذا لا تستقيل وتنشئ شركة لنفسك حيث يمكنك الحصول على أرباح أكثر؟ والسبب في اقتراحي هو أنه كان يشكو من سوء تعامل صاحب الشركة أحيانا وتأخر حصوله على مستحقاته أحيانا أخرى، بل حتى إعادة حساب عمولته بشكل يحرمه من جزء كبير منها.
كنت أسأله وأناقشه وأنا متأكد من أنها خطوة منطقية، فبإمكانه إقناع العملاء بسهولة، ثم إن معظم عملائه الحاليين من اجتهاده كمسوق حر قبل أن يلتحق بالشركة، كما أن بقية العمل المطلوب من اتفاق مع المستوردين أو ترتيب لنقل البضاعة أو متابعة للحسابات كل ذلك يسهل الحصول على من يكون مسؤولا عنه برواتب معقولة، والأهم من ذلك أن بإمكانه تمويل الشركة لفترة طويلة دون القلق على تغير وضعه المادي في حياته.
وكنت أصطدم كل مرة بإجاباته، إذ لم يكن يفكر في الأمر من أساسه، وكان يرى الفكرة سيئة لأنه بوضعه الحالي يضمن الحصول على الحد الأدنى حتى لو كانت هناك مشكلة في البضاعة أو السوق أو علاقاته بالعملاء، كما أن دخله من البيع لم يكن يتطلب منه جهدا كبيرا، ولم يكن مطلوبا منه أن يشغل باله بشيء مما على الشركة القيام به لاستكمال العمل وتحقيق المبيعات والأرباح، وأخيرا فإن مساره الحالي جعله مرتاحا بالفعل ولا زال يضيف إلى ثروته، فما الداعي لأن يتعب نفسه ويتعرض لمخاطر أكبر؟
مع مرور الوقت وتراكم المشاهدات والتجارب والتعامل مع الناس بدأت أفهم أن لكل منا مسارات تناسبه قد لا تناسب غيره، فإنشاء الشركة وإدارتها -مثلا- يتطلب قدرة على تحمل المخاطر واتخاذ القرارات الجريئة وهي سمة لا تتوفر عند معظم الناس، وهذا ليس عيبا فيهم وإنما هو اختلاف طبيعي.
أيضا يتطلب النجاح في العمل كموظف مرونة واستجابة، فمن الممكن أن يقرر المدير شيئا ويكون هناك ما هو أفضل منه، وعند مشاركة ذلك معه لا يوافق، فيكون مطلوبا من الموظف العمل في إطار ما طلبه المدير وبالطريقة التي طلبها بها، وهذه السمة بدورها لا توجد عند كل الناس.
وهكذا.. هناك اختلافات بين الناس في صفات ومهارات كثيرة تتعلق بهذا الموضوع كالقدرة على العمل في فريق، والقيادة، والتفكير الاستراتيجي، والابتكار، والالتزام بالهيكل التنظيمي، والصبر، وغير ذلك.
إنشاء شركة وإدارتها ليس الترقية المنطقية للموظف / المدير بالضرورة، بل هي مرحلة أخرى لها معطياتها ومدخلاتها ومتطلباتها ومقوماتها، هي مسار آخر يمكن لمن لديه المقومات المناسبة السير فيه، بينما يستمر الأغلبية في المسارات الشائعة والمناسبة لهم أكثر.