في كل استطلاعات الرأي التي تم عملها بين رواد الاعمال ممن فشلت مشاريعهم كان السبب الاول هو: لم يكن السوق في حاجة لمشروعنا اساسا! بهذه البساطة.. نعم.. مشروع كامل باحلام وامال وتطلعات وتوقعات وخطط وعمل مرهق وسهر الليالي واجتماعات بالايام واهتمام بالتفاصيل وتمويل ذاتي وتمويل من الاخرين وتطوير طريقة العمل وتغييرها عدة مرات و و و و كل هذا انتهى لان رائد الاعمال “اكتشف” في النهاية وبأغلى ثمن ممكن ان منتجه او خدمته لم يكن احد يحتاجها في الاصل.. السؤال هو: بما ان هذه المشكلة متكررة بهذا الشكل ويتحدث عنها كل من يفهم في مجال الbusiness والstartups فلماذا تتكرر؟
عندما تفكر في شيء ما، ثم تبدأ في تقليب الفكرة الناتجة في عقلك، وتبدأ في حكايتها لاصدقائك تنشأ بينكما بسرعة علاقة حب مدمرة، انت وفكرتك، تسيطر عليك الفكرة وتظهر امامك بأجمل مميزاتها، وعندما تسمع نقدا موجها اليها يتحرك عقلك سريعا للبحث عن رد على النقد لمحاولة اقناع صاحبه وتشعر بالغضب لمجرد وجود انتقاد للفكرة، بل عندما تسمع فكرة افضل منها فأنت تتجاهل ما سمعته لانك لا تريد التأثير على تلك العلاقة.. الاخطر من ذلك: عندما تتجه الى العملاء المرتقبين لاخذ رأيهم في الفكرة وتأكيد او تفنيد افتراضاتك (validation) فأنت تسأل الاسئلة التي توجه الاجابات الى صالح فكرتك وكذلك تفسر الاجابات المعاكسة لها على انها في صالحها او على الاقل تهمشها.. وهكذا تملأ الفكرة حياتك و”تتحكم” في طريقة تفكيرك وتغير من شخصيتك وتعميك عن عيوبها وعن الافكار الاخرى الافضل..
حبنا للفكرة وتمسكنا بها وانحيازنا لها هو عامل نفسي اسمه confirmation bias واعراضه تتمثل في تفسير الحقائق والمعلومات تفسيرا يجعلها في صالح الفكرة التي تعلقنا بها، وفي رفض الحقائق والافكار المختلفة عنها، بل حتى في تذكر الاشياء بطريقة مختلفة عما كانت عليه (بطريقة تؤيد الفكرة)! وحسب سيطرة هذا العامل على شخص ما فقد يحدث تغيرات سيئة -مؤقتة او دائمة- في شخصيته منها ان يصبح عنيدا غير قابل للنصح، مغلق الفكر لا يقبل التعليم، اقل ذكاء مما هو عليه نتيجة تمسكه -غير المنطقي- احيانا بفكرته، جامدا غير قابل للتطور، عصبيا لا يقبل النقد مهما كان بناء وهادئا، مغرورا يثق في رأيه ثقة عمياء، وفي النهاية فدائما يقع في الخطأ لانه لا يحلل الحقائق على ما هي عليه وانما يلوي ذراعها الى تأييد افكاره.
كلنا -للاسف- نعاني من هذا العامل النفسي بدرجات متفاوتة، ولهذا فكلنا لنا اخطاء وعثرات وقصص فشل، وبالطبع تتحول هذه الاخطاء الى قواعد للتعلم منها، ويمكنك ان تعرف من شخصية من تتحدث معه عن فكرة تخصه ما اذا كان قد مر بأخطاء او شاهد اخطاء وتعلم منها واصبح ذلك العامل النفسي قليل التأثير عليه، فهو دائما هادئ يستمع اكثر مما يتكلم، يحلل اكثر مما يدافع.. هنا يظهر السؤال الهام: كيف يمكننا ان نتغلب على الconfirmation bias؟
1- ابدأ في الشعور بالخوف والمسؤولية.. تمسكك بفكرتك وتعلقك بها بشكل يجعلك تغض الطرف عن عدم وجود احتياج حقيقي لها وعن عيوبها وعن استحالة تحقيقها الخ قد يؤدي الى توريط العديد من الاطراف معك بالمشاركة بمجهودهم وقتهم ومالهم لمدة طويلة، هل فكرتك جيدة وقمت بالتأكد منها بشكل صحيح ومحايد وحصلت على تأكيد العملاء الى الدرجة التي تجعلك تبدأ المشروع وتجعل الناس يأتمنونك على مساهماتهم؟
2- افضل طريقة مجربة: تصور ان المشروع قد فشل تماما وانتهى وابدأ في سؤال نفسك عن السبب، عندما تضع عقلك في هذه الحالة فسوف يتموضع في المستقبل وينشط في اتجاه التحليل ولا يلقي بالا للفكرة الحالية.. النتيجة دائما تكون اما تحسين وتطوير وتقوية الفكرة الحالية ومراعاة جوانب القصور فيها، او التخلي عن الفكرة نهائيا.
3- لا بد ان يكون في دائرة معارفك او شركائك او مستشاريك شخص او اكثر من نوعية devil’s advocate الذي يعارض كل شيء، المعارضة المستمرة تشحذ التفكير وتشجع على البحث عن حلول.
4- تعلم كيف تسأل العملاء المرتقبين (والحاليين) الاسئلة الصحيحة التي تعطيك نتائج يمكنك الثقة فيها والعمل بناء عليها. كتاب The Mom’s Test ممتاز (وملخصه كاف لفهم هذه النقطة في عشر دقائق).
5- تعامل مع فكرتك على انها شيء مستقل عن شخصيتك، تماما كقميصك الذي ترتديه، اذا قال لك احد ان القميص لونه سيء او مقطوع فهذا لا يضيرك انت شيئا لانه لا علاقة له بشخصيتك وكيانك.. فكرتك كهذا القميص: يمكن ان تكون سيئة ومع ذلك لا يضيرك ذلك.
Last Updated on 08-07-2020